مجموعة النبراس الثقافية

عدد الزيارات : 501في رحاب التقليد / بقلم: ياسر الحكيم


بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

كثرت في زماننا هذا التّشكيكات في ثوابت الدّين والمذهب، ومن الأمور الّتي نالتها أيدي مَن يُسمون بـ"المثقّفين" مسألة تقليد الفقهاء الجامعين للشّرائط في فروع الدين ومسائله الفقهيّة؛ لذا سنتعرض الجوانب الأساسيّة لهذه القضيّة مع ذكر أهمّ أدلّتها إن شاء الله.

نبدأ بذكر ما قاله أستاذ الفقهاء المتأخّرين السّيد الخوئيّ (رحمه الله): "يجب على كلّ مكلّف لم يبلغ رتبة "الاجتهاد" أن يكون في جميع عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروكه "مقلّداً" أو "محتاطاً" إلا أن يحصل له العلم بالحكم؛ لضرورة أو غيرها كما في بعض الواجبات وكثير من المستحبّات والمباحات. منهاج الصالحين، المسألة الأولى.

ولكي تتّضح المسألة سنوضّح بعض المفردات الّتي تحتاج إلى توضيح، وهي: الاجتهاد، والاحتياط، والتّقليد، والمعلوم من الدّين بالضّرورة.

بيان المصطلحات:

أمّا معاني تلك الكلمات الّتي وردت في فتوى السّيد الخوئيّ (قدس سرّه) فهي كالآتي:

  1. "الاجتهاد": وهو القدرة على معرفة الأحكام الشّرعيّة من أدلّتها التّفصيليّة كالقرآن الكريم والسّنة الشريفة.
  2. "الاحتياط": وهو القيام بالأمر الّذي يتأكّد فيه المكلّف من أدائه للحكم الشّرعيّ، ومثاله: الجمع بين القصر والتّمام عند اختلاف الفقهاء في تحديد المسافة الشرعيّة الّتي توجب قصر الصّلاة الرّباعيّة.
  3. "التّقليد": وهو الاعتماد على فتوى الفقيه الجامع للشّرائط في مقام العمل.
  4. "المعلوم من الدّين بالضّرورة": وهو ما يكفي في معرفته الاطّلاع البسيط على الكتاب الكريم والسّنة الشّريفة كوجوب الصلاة وصيام شهر رمضان، ويقابله ما يحتاج إلى إعمال النّظر وترتيب المقدمات والسّعي الحثيث وبذل الجهد في البحث في مصادر التّشريع كحكم عقد زاوج الكافرين إذا أسلما وهل يحتاجان إلى تجديده على وفق الدّين الإسلاميّ.

هذا ما يتعلق بمعرفة الاصطلاحات الّتي ستكون من مفاتيح بحثنا.

لكلّ واقعة حكم:

وهناك قضيّة أخرى يجب أن نعرفها ونعيها بشكل كامل لكي نكون على بصيرة من أمرنا، وهي الجواب الحاسم تجاه هذا السّؤال، وهو: هل لكلّ واقعة حكم شرعيّ؟

قد بحث علماء الإسلام عن جواب هذا السؤال، فسارعوا إلى الرّجوع إلى الثقلين اللّذين خلّفهما صاحب الرّسالة (صلّى الله عليه وآله) في أمته، وعند عودتنا إليهما نجد أن هذا الجواب هو "نعم، لكلّ شيء حكم"، وسنستعرض بإيجاز ما ورد في رواياتنا في هذا المجال:

  1. عن أبي عبد الله الصّادق (عليه السّلام) أنّه قال: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنّة.

الكافي، ج: 1، ص: 60.

  1. عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلّى الله عليه وآله)، وجعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحدّ حدّاً.

الكافي، ج: 1، ص: 59.

وإذا تأمّلنا هذين الحديثين الشّريفين -وفي معناهما أحاديث كثيرة- فسنخرج بنتيجة، وهي أنّ لكلّ عمل يقوم به الإنسان حكماً شرعيّاً معيّناً قد ورد في القرآن أو في السّنة الشّريفة، وعليه سيواجهنا السّؤال التّالي: هل يعرف الإنسان العادي كلّ هذه الأحكام؟ ولا أعتقد أنّ هناك من بوسعه أن يجيب بـ(نعم)، فنسأل سؤالاً آخر: ما هي وظيفتنا تجاه هذه الأحكام الّتي لا نعرف كثيراً منها؟

الوظيفة تجاه الأحكام المجهولة:

هناك جهتان بوسعهما الإجابة عن سؤالنا هذا، وهما: "العقل"، و"النقل".

أمّا العقل فيقول لنا: إنّ التّكاليف الشّرعيّة تعني أنّ هناك حقّاً لله تعالى في ذمّة الإنسان، ويجب على الإنسان أن يؤدي هذا الحقّ إلى مولاه تعالى؛ لأنّ الله سبحانه بالنسبة إلى عباده مولى، أي: أنّه تجب طاعته، ولمّا كان كذلك فيقول لنا عقلنا: يجب عليكم البحث لتتعرّفوا هذه التّكاليف.

وأمّا النّقل فحدّث ولا حرج، ونكتفي بذكر نموذجين من الرّوايات الّتي تحثّ على البحث عن الأحكام الشّرعيّة:

  1. عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): إنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال.

الكافي، ج: 1، ص: 30. و: تحف العقول، ص: 199.

  1. عن أبي عبد الله (عليه السّلام): طلب العلم فريضة على كلّ مسلم.

المحاسن، ج: 1، ص: 225. و: بصائر الدّرجات، ص: 22. و: الكافي، ج: 1، ص: 30. و: دعائم الإسلام، ج: 1، ص: 83.

ولا شك أن السعي إلى معرفة الأحكام الشرعية من الأمور المقصودة من "طلب العلم"، نعم لا مانع من شمول عنوان "طلب العلم" لغير ذلك من العلوم، وهذا بحث آخر.

وبعد هذا كلّه نتساءل: كيف نمتثل لحكم العقل والشّرع بوجوب معرفة الأحكام الشّرعيّة؟

خيارات ثلاثة:

إذا أردنا أن نمتثل للحكم بوجوب معرفة الأحكام الشّرعيّة فيجب علينا أن نجتهد أو نحتاط أو نقلّد، ولتوضيح ذلك نقول:

أمّا طريق الاجتهاد فهو -كما تقدّم في بيان المصطلحات- يفرض على سالكه أن يبحث في الأدلّة التّفصيليّة للأحكام، ولو أراد كل إنسان أن يسلك هذا الطّريق لتوقّفت الحياة؛ لأنّ الجميع سيكون مشغولاً بالبحث في القرآن الكريم والسّنة الشّريفة عن أحكامه، والدّليل على صعوبة الاجتهاد وعدم تيسره لكلّ أحد يمكن لكلّ إنسان أن يكتشفه إذا طلبنا منه الإجابة مع ذكر الدّليل عن هذه الأسئلة مثلاً: ما هي أوقات الصّلوات في البلاد الّتي تمرّ بفترة معيّنة من السّنة لا تغيب عنها الشّمس؟ وما حكم تعارض الشّهادات برؤية الهلال مع تصريح بعض الفلكيّين بعدم إمكان رؤيته في الظّروف العاديّة؟ وهل تشمل الزّكاة أموالنا الّتي نستخدمها في هذه العصور؟ وماذا على القاضي أن يفعل فيما لو كان يعلم أنّ الحق مع فلان ولكنّ الشّهود العدول قالوا بأنّه مع الشّخص الآخر؟

وأمّا طريق الاحتياط فهو غير متيسّر للجميع، بل هو في بعض الحالات متعذّر كما لو احتمل المكلّف أنّ هذا العمل حرام أو واجب، ومثاله: أنّ هناك اختلافاً بين الفقهاء في حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فمنهم من يقول بأنّها محرمة ومنهم من يقول بأنّها واجبة، فكيف يحتاط الإنسان؟ يترك الصّلاة أم يأتي بها؟

وإذا تعذّر الاجتهاد والاحتياط على الجميع فلا بدّ من وجود طريق آخر، وليس هذا الطّريق إلّا التّقليد، ولكن ما الدّليل على صحّته؟

المبرّر العلميّ للتّقليد:

وعند الجواب عن هذا السّؤال نقول:

إنّ السّلوك العقلائيّ في التّعامل مع ما يجهله الإنسان ممّا يجب عليه معرفته هو الرّجوع فيه إلى العالم به، وهذا ما يسمى بالرّجوع إلى أهل الاختصاص، وهو شيء جرى عليه العقلاء قديماً وحديثاً في مختلف مجالات الحياة، فالّذي يعاني من حمّى شديدة وآلام في بعض بدنه يرجع إلى من يعرف كيفيّة علاجها وهو الطّبيب، ومن يريد القيام بمشروع بناء ضخم ويرى أنّ الأرض ليست متماسكة يفزع إلى المهندس فيسأله عن كميّة الأساس الّذي يحتاج إليه مشروعه ونوع المواد الأوليّة الّتي يجب عليه استخدامها، ومن تصاب سيّارته بأعطال كثيرة وتقوم بإصدار أصوات غير مألوفة يذهب إلى الميكانيكيّ ليعمل بما يقوله.

وإذا تأمّلنا هذه التّصرفات نراها مشابهة للتّقليد، فما الفرق بينها وبين الّذي لا يعلم حكم استخدام المغذي للصّائم فيسأل الفقيه ويعمل بفتواه؟

وهذا يعني أنّ معرفة الأحكام الشّرعية أو ما يسمى بـ"علم الفقه" يحتاج إلى تخصّص ودراسة شأنُه شأن العلوم الأخرى الّتي تحتاج إلى من يتخصّص فيها، ولا يُعدّ الرّجوع إلى المتخصّص عيباً، بل العيب هو إبداء الشخص غير المتخصّص نظره في الأمور الّتي تحتاج إلى تخصّص كالأمثلة السّابقة، أفهل نقبل من المهندس أن يبدي رأيه في وصف دواء لعلاج تلك الحمّى الّتي شعر بها ذلك الشّخص الّذي ذهب إلى طبيبه؟ فلماذا نقبل أن يعطي "المثقّف" رأيه في مسألة كفاية رؤية الهلال بالأجهزة الحديثة؟ هل هذا إلا عمل مزاجيّ وخروج عن الطّريقة العقلائيّة؟

ومن هذا كلّه ثبت أنّ "التّقليد" طريق عقلائيّ وعمل منسجم مع سلوك العقلاء في كلّ الأزمنة.

تفريعات وتطبيقات:

بقي علينا أن نعرف من نقلّد وكيف نختار مرجعنا، وهذا يحتاج إلى استعراض عدّة أسئلة مرتّبة، وهي:

  1. هل نعلم بوجود خلاف بين المراجع؟ والجواب: نعم.
  2. ماذا تقتضي الارتكازات والسّجيّة العقلائيّة؟ والجواب: تقتضي الرّجوع إلى الأعلم كما لو اختلف الأطباء.
  3. من هو الأعلم؟ والجواب: أنّه الأقدر على استخراج الأحكام الفرعيّة من أدلّتها التّفصيليّة.
  4. كيف نحدّد الأعلم؟ والجواب: بالرّجوع إلى أهل الخبرة المتمثّلين بالفضلاء في الحوزة العلميّة الّذين يكونون على مستوى عالٍ من التّدين والمعرفة بحيث يطمئنّ الإنسان لأقوالهم.
  5. هل يجوز لنا الرجوع إلى الميت الأعلم؟ والجواب: أنّ السلوك العقلائيّ قائم على الرّجوع إلى أعلم الأحياء؛ لأنّه يصح الرجوع إليه بلا أيّ شبهة، وأمّا غيره فلا أقلّ من وجود شبهة في الرّجوع إليه، وكفى باشتهار عدم جواز الرّجوع إلى الميت بين المراجع شبهةً في المقام، وعليه فإن أجاز الأعلم الحيّ الرّجوع إلى الأعلم الميّت جاز الرجوع، وإلّا فلا.
  6. هل يجوز لنا تقليد غير الأعلم؟ والجواب: أنّه يجب الرّجوع إلى الأعلم؛ لأنّه هو الحجة علينا قطعاً وغيره لا نعلم بصحّة الرّجوع إليه، ثم نسأل هذا الأعلم: هل تُجوِّز لنا الرّجوع إلى غير الأعلم؟ فإن أجاز لنا فهو، وإلّا فلا يجوز الرّجوع إلى غيره.
  7. لو تعدّد الأعلم بأن كان هناك اثنان متساويان في العلم وفي نفس الوقت كانا أعلم من الآخرين فمن نقلّد؟ والجواب: أنّنا نسألهما معاً عن هذه المسألة، فإن قالا: أنت مخيّر، فنختار أيّهما شئنا، وإن قالا: يجب عليك الاحتياط بين أقوالنا، وجب الاحتياط بين أقوالهما فقط.
  8. لو قال المرجعان الأعلمان في السؤال السابق: أنت مخيّر، وكنّا قد اخترنا "أحمد" فقدناه، فهل يجوز لنا تقليد "أحمد" في مسألة وتقليد الثّاني في مسألة أخرى؟ والجواب: أنّنا يجب أن نسأل من اخترناه -أي: "أحمد"- عن رأيه في هذه المسألة بالخصوص "التّبعيض في التّقليد"، فإن أجاز فهو، وإن لم يجز فالأمر واضح.

مسك الختام:

لا يفوتني التّنبيه على أنّ هذه المقالة ثقافيّة وفكريّة أكثر ممّا هي تخصّصيّة وفقهيّة، وهي لم تستوعب كلّ الأدّلة ولا كلّ الأقوال، وإنّما كان الغرض منها تثقيف الشّاب وجعله على بصيرة من أمره كي يكون على قناعة بما يفعله عموم أفراد الطائفة المحقّة -أعلى الله كلمتهم- ويكون بمقدوره الرّد على أراجيف المبطلين، وعلى من يريد التّوسّع أكثر ومعرفة الأمور بدقّة وعمق أكبر سؤال العالم المتخصّص في هذه المجالات، وعليه أن يقبل منه ولا يُلحَّ في الاعتراض باعتبار أنّ من يجيبه أحد المتخصّصين في هذا المجال، كما يقبل من الطّبيب ما يقوله عند شرحه لسبب اختياره لهذا الدّواء دون غيره، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله الطّاهرين.

 

 
  12 / ذو القعدة / 1445  |  2024 / 05 / 20        الزيارات : 4540417        صلاة الصبح |        صلاة الظهر والعصر |        صلاة المغرب والعشاء |