مجموعة النبراس الثقافية

عدد الزيارات : 1125الازدواجية المدعاة على العراقيين بين علم الاجتماع ونصوص أهل البيت عليهم السلام / بقلم : جسام السعيدي


الازدواجية المدعاة على العراقيين

بين علم الاجتماع ونصوص أهل البيت عليهم السلام

بقلم : جسام محمد السعيدي/ كربلاء المقدسة

يُعجب معظم شبابنا بمقولات ونظريات الدكتور علي الوردي وغيره فيما يخص المجتمع العراقي ، رغم أن كثيراً منها ليس من المسلمات ، بل في بعضها ما يخالف كلام المعصومين عليهم السلام ، وخالفه أيضاً الكثير من الباحثين في علم الاجتماع وهو ما سنبينه في بحثنا هذا .

يقول الدكتور الوردي في احدى كتبه (لاحظت بعد دراسة طويلة أن شخصية الفرد العراقي فيها شيء من الإزدواج وأجد كثيراً من القرائن تؤيدني فيما أذهب إليه .. وإني لا أنكر بأن إزدواج الشخصية ظاهرة عامة توجد بأشكال مختلفة في كل إنسان، ولكني أؤكد أن الإزدواج فينا مركّز ومتغلغل في أعماق نفوسنا ، ان العراقي أكثر من غيره هياما بالمثل العليا فيدعو إليها في خطاباته وكتاباته ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس إنحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته) .

ونحن نسأل الدكتور الوردي ما هو الازدواج الذي يقصده ؟ يبدو من ظاهر كلامه أنه يقصد إيمان الشخص بشيء ظاهراً وعمله بخلاف ذلك ، والكاشف عن عدم ايمانه الحقيقي بذلك الشيء ، وهذا ما نسميه فقهياً النفاق ، وقد قصد التعميم في نظريته على كل العراقيين ولم يستثن جماعة أو فرداً .

وسنناقش الأمر وفق حقائق علم الاجتماع ، وسنثبت أن الدكتور الوردي لم يكن دقيقاً في وصفه ، بل أنه لم يكن محيطاً بالأمر بكل جوانبه ، مما أنتج نظرية غير مكتملة الوصف ، ومخالفة للواقع ، فهو لم يجد القاعدة الصحيحة وأخطأ في تشخيص مصاديقها ، وان ما قصده (النفاق) ينطبق على فئة قليلة جداً ، فضلاً عن تعميمه على الكل وإن قصد الأغلبية .

نقد النظرية وفق علوم الاجتماع

ان الازدواجية بما طرحه الدكتور الوردي من مصاديق ، ليست مشكلةً يُراد البحث عن حل لها ، وليست هي نفاقاً كما يُفهم من ظاهر كلامه ، كما أنها ليست صفة عامة للعراقيين فضلاً عن أن تكون صفة عامة للبشر بحسب كلامه ، لان الدكتور رحمه الله غفل عن الأمور التالية ، عند طرحه لهذا الرأي :

1.      يتحاكم اهل الاختصاص في كل علم الى قواعده لتفسير ما اختلفوا فيه ، وفي علم الاجتماع عندما يُطرح رأي لأحدهم يُفهم مقصده فيه من ظاهره ، بالإضافة للقرائن المحيطة بهذا الظاهر والتي تؤيد وتفسر ذلك المقصد ، والدكتور الوردي في موضوعنا لم يتكلم بقرآن او حديث حتى نحتاج الى تأويل باطني له ، باعتبار ان الظاهري منه قد لا يكفي أحيانا، ولأنه تكلم بكلام بشر عادي له خصوصية علمية وهو مفهوم . . بخصوص موضوع الازدواجية ، وأعطى مصاديق عليها تؤكد انه يعني ما قلنا ، من ان الازدواجية عنده تعني النفاق ، فعند ذلك : إن من التكلف أن نحمل الأمر فوق طاقته ونحاول تأويل كلامه بغير ما قصد ، نعم ان خانته العبارة فهو شيء آخر ، لكننا عندها لن نغفل مقصوده منها ، فبما انه عرف الازدواجية من خلال مضمون طرحه بأنها اظهار الشخص لشيء والعمل الكاشف عن الايمان بخلافه ، يصبح لزاما علينا تسمية ذلك بالنفاق ، وإلا كيف يكون النفاق إن لم يكن كذلك؟!! .

2.      لو نظرنا للأمر من زاوية أخرى - ربما نظر اليها الدكتور الوردي ولكنه فسرها بشكل خاطئ على أنها نفاق وهي ليست كذلك-  سنجد أن هناك عقلاً جمعياً ( هو الرأي العام لعموم المجتمع) والذي قد يفرض رأيه على الفرد ويتبناه دون قناعة راسخة ، ويتنازل عنه بمجرد مراجعته لنفسه ، وهذا ما يحصل لأغلبية الناس ، اذ أنهم يعيرون عقلهم للجماعة فيتحكمون به ويصدرون له آرائهم ، فيتبناها دون علم واقتناع بها ، فلذا نرى الكثير منا نحن البشر - ولا خصوصية للعراقيين في ذلك - ينساق خلف الرأي الجمعي للمجتمع في مواقف كثيرة وخاصة تلك التي يجهل التشخيص فيها لحظتها، لكنه عندما يخلو ونفسه ويُعمل عقله، تراه قد يخالف ما أيده سابقاً، ويعارض ما آمن به من مفاهيم، وهذا يحصل لكل الناس البسطاء، بل ولبعض غيرهم في بعض المواقف، ويشذ عنهم ذوي العقول القوية تفكيرا وبحثاً ورأياً .

 وعليه نستطيع فهم ماهية الازدواجية التي يذكرها الكثير من الناس او الدكتور الوردي في مصاديق كلامهم ، ويعتبرونها نفاقاً وهي ليست كذلك ، إذ هي انسياق وراء العقل الجمعي دون تفكير، والرجوع عن هذا الانسياق عند التفكير .

فان ما نراه من تشبث بالمثل العليا من أغلب الناس ، انما هو انسياق خلف العموم والرأي الجمعي وليس ايمانا بها ، وبالتالي لا يمكن التعويل على هؤلاء في تغيير الواقع ، أو نقدهم لأنهم يبدلون رأيهم أكثر من مرة، لأنهم فعلا انما يعودون لما يؤمنون به، لا انهم يبدلون اعتقادهم او يزدوجون في الاعتقاد.

فواقع الأمر لا وجود لمشكلة الازدواجية بين أغلب الناس حتى نسعى لحلها ، بل هناك مشكلة انسياق وراء الرأي الجمعي بدون ايمان واعتقاد، سواء أكان هذا الراي صحيحاً أو خطأً، وكما شاهدنا فهو عرضة للتنصل منه لأنه ليس باعتقاد.

ولحل هذه المشكلة نحتاج أن نعلم الناس كيف يفكرون بأنفسهم، مستندين لحقائق الأمور في الدنيا والآخرة، مستعينين بالأعلم منهم من ذوي الاختصاص ، وان يتركوا الانسياق وراء راي المجموع بدون تمحيص وبحث ، وان أدى تفكيرهم - قصوراً أو تقصيراً - الى الاعتقاد الخاطئ ، فالأخير سيوصل الى الصواب يوماً ما ان سعى صاحبه طالما كانت نيته البحث عن الحقيقة . . . فذلك أصوب من التخبط وراء رأي المجموع الذي قد لا يكون في أحايين كثيرة مجدياً .

فالمجموعة التي تنتمي لهذ الصنف من الفهم هي تلك المنساقة للعقل الجمعي دون تفكير منطقي او فردي وهم اغلبية الناس ، وهؤلاء ليس ازدواجيين وان ظهروا بذلك للناظر بقدر ما هم ناعقين مع كل ناعق ، فتأمل .

ولنضرب المثال التالي على الأمر :

شخصان يتناقشان بمسألة الطائفية ، ولنفرض أن أحدهما من البسطاء الجُهال والآخر من العقلاء ، العاقل انعقد قلبه على ما يقول من حيث رفض الطائفية ومقتها ، والبسيط تأثر بقول العاقل انسياقاً وراء العقل الجمعي لمجموع الناس في الاعلام وغيره لا اعتقادا منه بحقيقة ما يقول ، فان خلا ونفسه التي ربما تكون طائفية ، تراه يبدل موقفه ، وتبديل موقفه هذا انما هو رجوع للحقيقة التي يؤمن بها وليست عملية تبديل لاعتقاده ، او ما نصطلح عليه بازدواجية الرأي ، فالازدواجية تبديل للاعتقاد وليس رجوع له بعد انسياق وراء رأي الجماعة ، الذي هو ليس برأيه ، بل تبناه ظاهراً لا اعتقاداً قلبياً ، فتأمل..

ادعي من خلال بحثي هذا أنني أشخص مشكلة في البشر، لاتختص بالعراقيين، وأحاول البحث عن الحلول والأسباب، وبذلك اختلف في تشخيص الموضوع مع الاستاذ الوردي الذي ينتقد الأمر ويعتبره صفة عامة للعراقيين، والأخطر من ذلك أنه يفهمها بشكل مغاير لحقيقتها، فهو يرى تبدل رأي انسان انساق وراء المجموع ورجوعه الى ما يعتقد، يراه ازدواجية، وأنا أرى أن ذلك ليس ازدواجية، لأنها كما أوضحنا آنفا تغير من اعتقاد لآخر وليس الرجوع من تأثر ظاهري برأي الجماعة إلى الاعتقاد الشخصي الذي كان وسيبقى عليه ولم يزدوج داخله، إلا للناظر الذي خيل له أن اعتقده في البداية، فتأملوا أعزتي .

3.      ظاهر الازدواج قد يحصل أحيانا للرائي وفق المنظور الثاني المذكور آنفاً ، وهو ليس ازدواجاً وفق هذا المنظور فضلاً عن أن يكون ازدواجاً بمعنى النفاق كما قصده الدكتور الوردي ، وهذا الازدواج الظاهري وفق ذلك المنظور ، يحصل عندما يصيب عقلاء الناس أحيانا الخوف من قول الحقيقة ، فتراهم يقولون ما لا يؤمنون به ، مع بقاء ايمانهم وعدم تغيره ، وهذا ليس فيه ازدواجية أصلاً ، وفق رأي الدكتور الوردي ، اذا ان الأخيرة قد تعني بالإضافة للنفاق ، تغيير الاعتقاد مع سبق الاصرار على ذلك ، لا اظهار شيء يخالف الاعتقاد ، والأخير واحد في كلا الوجهين لم يتغير ، وهو التقية ، فهي ليست ازدواجية - بالمعنى الذي قصده الوردي - بل هي اخفاء الحق مخافة أحدٍ من الخلق ، فالاعتقاد بقي باطناً واحداً ولم يزدوج، ما ازدوج هو الكلام، والدكتور يؤكد أو ظاهر كلامه يفسر على أن الازدواج يحصل بوجود اعتقادين لا اعتقاد واحد بكلامين، فالازدواجية التي قصدها الوردي، تعني أحد أمرين:

أ‌-     ان أخذنا بظاهر كلامه فهو النفاق.

ب‌-   أن فسرنا كلامه على احتمالية انه (كتب ما لم يقصد) فيمكن أن تكون الازدواجية حينها (تغيير الايمان بحقيقة ما في موقفين زمانيين مختلفين، او موضعين متباينين، اي التغيير المكاني او الزماني مع الاعتقاد بكلا الحقيقتين في كلا الزمانين او المكانين) وهذا يعني ان الازدواجية وفق هذا التفسير الافتراضي ليست نفاقاً بقدر ما هي عدم ثبوت في الآراء الشخصية، او قل الإيمان الهوائي بالأشياء، فتارة مع هذا الاتجاه وأخرى مع غيره، لكن يبقى هذا الاحتمال محتاج الى دليل لإثبات ان الدكتور الوردي قد قصده، مع وجود ظاهر كلامه المخالف له .

4.      هناك منظور آخر وتفسير لاختلاف السلوك مع الاعتقاد، الصادران من الشخص، وقد يفسر ظاهراً على أنه ازدواجية، وهو ليس كذلك، ألا وهو ايمان الشخص بأحد نقيضين والميل نفسيا للآخر، فذلك الايمان بالقيم السماوية العليا أو المُثل الاجتماعية السامية، هو فطرة عقلية فطر الله الناس عليها، والميل في نفس الوقت لمشتهيات النفس وهواها امر فطري للنفس، ولا نقيض بين الأمرين، وليس هذا الأمر ازدواجية، غاية ما في الأمر ان العقل يختلف عن النفس، فالأول يميل لقيم السماء والثاني يجنح لقيم الأرض، وهو ليس بمرض يُشار له بالبنان ويحتاج كل هذا التركيز الذي يُظهره البعض بأنه مرض يحتاج علاجاً!! إنما هو شيء من مقتضيات الطبيعة البشرية .

فالصراع بين هذين التوجهين طبيعي ، وهل التدين الا نتاج المعركة بين هذين التيارين؟!! ، فإما ينتصر العقل فتحصل التقوى او تنتصر النفس فيحصل الخسران والفسق.

 ولسنا بصدد الدخول في ايضاح هذا الصراع إلا بمقدار ايضاح اللبس الذي حصل عند البعض الذي تبنى فهم الازدواجية عند الدكتور الوردي (( والتي تعني عنده اظهار الايمان بقيم ومُثل عليا عند التنظير - وهي ليست ايمانا بقدر ما هي اظهار الفاظ بلا اعتقاد – والعمل الكاشف عن الايمان بخلافها على ارض الواقع العملي)) ، وفرق هذا التفسير واضح عن الواقع الذي يؤكد:

 أن الايمان بقيم ومُثل عليا واقعا، والعمل - وليس الايمان - بخلافها بسبب ميل النفس لمشتهيات الدنيا كما أوضحناه، ليس بالأمر المستغرب لأنه من سُنن الحياة، وهو ليس نفاقاً.

ومن هذا نعرف ان كثيرا من البشر ومنهم الكثير من العراقيين وليس كلهم - وفق كلام الدكتور الوردي الذي وقع في المحذور وعمّم أحكامه - ليسوا ازدواجيين بقدر ما هم بشر طبيعيون، لهم رؤى عقلية يؤمنون بها ويمتلكون نفوسا كباقي البشر فيها ميل لمشتهيات الدنيا قد تخالف تلك الرؤى، ولا خصوصة للعراقيين فيها، ولا تعني هذه البديهية العلمية بأي حال، ان هؤلاء البعض يؤمن بشي ظاهرا ويعاكسه باطنا، وبالتالي يطلق عليه اصطلاحا بالمنافق، او الازدواجي وفق مفهوم الدكتور الوردي، بل هم كمثل الشخص الذي يؤمن بوجوب الصلاة ولكنه لا يصلي، فلا يسميه الدين منافقاً او كافرا بل هو عاص، نعم لو كان لا يؤمن بالصلاة ويصلي ليظهر للناس تدينه فهو ازدواجي او منافق.

وعلى ذلك ووفق الملاحظات أعلاه، يجب التأكيد على ان الازدواجية بمعناها الاصطلاحي وكما أوضحناه بلا لبس او خلاف بين المختصين، غير موجود عند اغلب الناس فضلاً عن العراقيين، وهو ما أخطأ فيه الدكتور الوردي اذ تصور وجودها في الأغلب وركز على العراقيين، في تأكيد على ما نقوله دائما في كتاباتنا ومحاضراتنا، أن الكثير من العراقيين يحبون جلد الذات بسبب أو بدونه، فينسبون السوء لأنفسهم وان لم يوجد.

 أن ما نراه من تشبث وإيمان بالمثل العليا من أغلب الناس -عراقيين أو غيرهم – ومخالفة سلوكهم لذلك الإيمان، يعود تفسيره إلى أحد الأمور التالية:

1.      انسياق الشخص خلف الرأي الجمعي وتبنيه للفكر السائد دون تدقيق، وذلك ليس إيماناً واعتقاداً متجذرا عند هؤلاء الأشخاص، بدليل عودتهم لما يؤمنون به عند الرجوع لأنفسهم وإعمال عقولهم، وهذا الرجوع ليس ازدواجية بالمعنى الذي قصده الدكتور الوردي؛ لأنه ليس تبديلاً لاعتقاد ما بآخر، بقدر ما هو رجوع لمتبنيات عقله، صحيحة كانت أم خاطئة، وكما لاحظنا فإن هؤلاء عرضة للتنصل مما أظهروا تبنيه وفق الرأي الجمعي؛ لأن قلوبهم لم تنعقد على الإيمان به، فلا ازدواجية في الأمر وفق رأي الدكتور الوردي، وهذه الفئة لا يمكن التعويل عليها بشكل كبير في التغيير نحو واقع أفضل كأفراد بمعزل عن المجموع، لكن يمكن الاستفادة منهم في الثورات والمظاهرات وحتى في مراسيم العبادة الجماعية؛ لأنهم ينساقون خلف المجموع، فتحصل النتائج سريعة. 

2.      سلوك ناتج من صراع العقل والنفس، فتميل نفوس الناس للهوى كعادة الأغلبية، وتحيد عن متبنيات العقل، فيظهر اختلاف فلا ازدواجية أيضاً وفق هذا المنظور.

3.      حصول ظاهر الازدواج بسبب خوف الناس من قول الحق مخافة أحدٍ من الخلق، أو ما يسمى فقهياً بالتَّقية، وهي - كما هو معلوم – فطرة بشرية ولا خصوصية للمسلمين فيها، بل تقول بها كلُّ الأديان ويحكم العقل بصحتها، وهي ليست ازدواجية وفق المنظور الذي قاله الدكتور الوردي، كما أنها ليست مشكلةً تحتاج الى حل، بل هي الحل أحياناً، وهي مقبولة عقلاً ونقلاً.

4.      ادعاء الشخص الإيمان بشيء وإظهار ما يخالفه سلوكاً، مما يكشف أن إيمانه الظاهري كان وهماً، وأن إيمانه الحقيقي هو ما كشفه سلوكه، وهذا يسمى النَّفاق، وهو ما قصده الدكتور الوردي.

ومما سبق نكتشف أن هناك اربع احتمالات علمية لتفسير ما أسماه الدكتور الوردي (الازدواجية)، الأخيرة فقط تنطبق على مقصده، وتخالفها الثلاثة الأولى، والتي تفسر سلوك غالبية البشر السَّاحقة، فلا يبقى بعد ذلك معنى لقول أن أغلب البشر أو أغلب العراقيين (ازدواجيين) اي منافقين وفق التَّفسير الرَّابع.

وهكذا اثبتنا بطلان ادعاء الاستذا الدكتور الوردي بخصوص نظريته حول الازدواجية، فلا وجود لمشكلتها - وفق منظور الدكتور الوردي- بين أغلب الناس حتى نسعى لحلها، لكننا نحتاج فقط لتعليم أولئك الذين ينساقون خلف المجموع دون بحث وتمحيص، كيف يفكرون بأنفسهم مستندين لحقائق الأمور في العلوم الدينية والصرفة، وأن يتركوا الانسياق وراء رأي المجموع في الأمور التي تحتاج منهم معرفة يقينية فردية، كعلوم العقائد الدينية والفقه والأخلاق، والتي تكون مظلة لعلوم تصب قواعدها في نفس الاتجاه كعلوم الاجتماع والنفس والتنمية البشرية، والتي تكون محكومة بتلك العلوم الدينية، فنأخذ بما وافقته ونرفض ما يعاكسها.

 

نقض نظرية ازدواجية العراقيين وفقاً لكلام أهل البيت (عليهم السلام)

بحسب قول أهل البيت (عليهم السلام) بخصوص وصف عموم العراقيين، فالنَّفاق صفة غير موجودة لعمومهم فضلاً عن شمولها لأجمعهم، فكيف افترضها الدكتور الوردي؟!

لنرى ما قاله أعداء العراق حول العراقيين، ومنها قولٌ نسبوه افتراءً لأمير المؤمنين (عليه السلام): (إن أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق!)، ونحن لم نر حديثاً عنه (عليه السلام) بهذا النص، بل نُقل في المصادر أن هذا الحديث منقول عن أعداء أهل البيت الذين يكيلون التهم والسب لأهل العراق، ومن أولئك الأعداء معاوية: فإنَّه قال للوليد بن جابر الطائي: (وإنَّك لتهددني يا أخا طي بأوباش العراق, أهل النَّفاق ومَعدِن الشِّقاق...) ، وقول الحجاج في إحدى خطبه: (يا أهل العراق, يا أهل الشِّقاق والنِّفاق ومساوئ الأخلاق)، وقول الجلَّاد عثمان بن حيان والي المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك في خطبة له عند ما وصل المدينة (أيُّها النَّاس إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالاً أهل العراق, أهل الشِّقاق والنِّفاق, هم والله عشُّ النِّفاق).

ويبدو أن الدكتور الوردي قد وصل إلى نفس النتيجة التي وصلها أعداء العراقيين من حكام الأمويين، رغم عدم قصده موافقتهم، فنحن لا نشك في دينه ولا وطنيته، لكن وصوله الى نتيجة خاطئة من مقدمات ناقصة، أثَّرت في الكثير منا سلبياً، سلوكاً واعتقاداً، بسبب انسياق بعض المثقفين وراء بعض العناوين البراقة، فعلينا تنقية صفحة شعبنا، مما اُلصق به ظلما،ً كي نتخلص من سلبيات ذلك.

إن هذا التَّفسير السَّلبي لشخصية العراقيين من الوردي وقبله الأمويون قد رسَّخ لدى أغلب العراقيين عدم احترامهم لأنفسهم، بل وكره الانتماء للعراق حتى يتخلصوا من لعنة ما أُلصِق بهم! فترى الكثير منَّا يفتخر بأنَّ أجداده قبل ألف أو ألفي عام قد جاء من اليمن أو الحجاز أو غيرها - رغم أن ذلك لا ينفي عراقيته ورغم ان ذلك ليس بصحيح فعلاً، فالعشائر العربية أصلها من العراق كما أثبته العلامة الشيخ الكوراني في كتابه سلسلة القبائل العربية العراقية- لكنه يستخدم احدى وسائل الدفاع النفسية للتخلص من تلك اللعنة التي اُلصقت به زوراً وبهتاناً، حتى يثبت لنفسه أنه ليس ازدواجياً وبالتالي ليس منافقاً!

ماذا أنتج من ذلك الفهم السَّلبي والتَّصديق به من قبل أكثر العراقيين؟! لقد أنتج :

1.      الاستحياء من الانتماء للعراق .

2.      عدم حبِّه عملياً .

3.      عدم التَّورع عن خيانته .

4.      عدم الإخلاص له عملاً ، الخ .

 وبالتَّالي مشاهدة حجم الفساد الإداري والمالي الكبيرين المعيقين لحركة التَّقدم ، وخلل تنفيذ الكثير من المشاريع وعدم دقتها، رغم امتلاكنا كفاءات في معظم التَّخصصات ، وهي قادرة على تنفيذ كلِّ الأعمال والمشاريع بأفضل صورة وأسرع وقت، لا بعضها كما هو حاصل، لكن لا يوجد هذا الأمر عند الأغلبية منهم ، وعندما نسأل لماذا؟!! سيكون الجواب : إن من يقوم بهذه الأعمال ومن يتصدى للإدارة، أغلبهم غير منتمٍ بحق للعراق، ولا يشعر بوطنية تجاهه، وبالتَّالي لن نلومه إن أفسد وأخطأ خاصَّة إن لم يكن متديناً، فالأخير يحركه دينه، ولن يقوم إلا بالخير ، لكنهم أقلية في كل مجتمع، بينما الأغلبية يحركها ولائها وحبها وإخلاصها للوطن ، فإن فقدت ضاع البلد ؛ لأنهم الأكثرية .

إنَّ اقتناع الناس بهذه الأوهام المغلوطة ستساهم بتغيير سلوكهم نحو السلبية كما هو المعروف في علم التَّنمية البشرية.. فتلقين النَّفس شيئاً سلبياً يجعلها تعمل به لا شعورياً كما هو معلوم .

 ولذا يصبح تصحيح مثل هذه الأفكار – كالازدواجية المفتراة والبداوة المفتراة والنفاق وأساطير قتل المعصومين وغيرها- واجباً وطنياً وربما دينياً لا ترفاً فكرياً..

 والتَّجرد عن الدين والنظر للأمور بعلمية بحتة دون الأخذ بعلوم الغيب في هذا المجال، يقودنا إلى نتائج منقوصة وربما مغلوطة كما وصل إليها الدكتور الوردي في مسألة الازدواجية.

ونحن لا يهمنا تخطئة باحث أو عالم في كل نظرياته الاجتماعية، فلا الوقت لدينا يتسع، ولا الأمر بهذه الأهمية التي تتطلب منا إيلائه أهمية قصوى، بل لا يهمنا تخطئة ما كتب هؤلاء بخصوص العراقيين مما يتعارض وانطلاقتهم نحو حاضر زاهر ومستقبل جميل.

إذ لو راجعنا كلمات أعداء أهل البيت (عليهم السلام) بحق العراقيين، نراها متناقضة تماماً مع أقوال المعصومين المادحة للعراقيين والتي ذكرناها في بحوث سابقة، ومنها الأحاديث التي لم تنظر عمومها إلى الشيعة العراقيين فقط، بل نظرت إلى المحبين منهم أيضاً، واعتبرت سلوكهم قاعدة يشذُّ عنها البعض لا العكس، وإلَّا ما معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة) ، في إشارة واضحة إلى أنه (عليه السَّلام) كان يقيس حرص أهل الشام على الدنيا بحرص العراقيين على الآخرة، فتعميمه (عليه السلام) واضح بالمدح لا بالذم، وطبعاً يخرج من القاعدة البعض وليس العكس.

ونحن نتساءل كيف يجتمع وصف الإمام علي (عليه السلام) للعراقيين بكونهم حريصين على الآخرة، مع مقولة الآخرين بأنهم منافقين؟! مع علمنا بأن { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار } ، وهو أشدُّ ضرراً من الكافر على المؤمنين، فكيف يجتمع النَّقيضان، كونهم حريصين على الآخرة، وكونهم منافقين؟!

مع التأكيد على أنَّ هذا الكلام غير قابل للنقض والتحريف، لأنَّ سيد الكائنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "عليّ مع الحق والحق معه يدور معه حيث دار، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" .

ونضيف قول الإمام الصادق (عليه السلام) في مدحه لجزء كبير من العراقيين بقوله: (الحمد الله الذي جعل أجلّة مواليّ بالعراق) ؟! وكيف يجتمع النفاق المفترى على العراقيين مع مدحهم هذا؟! فهل يصح لنا الإعجاب بأقوال تناقض قول المعصومين (عليهم السَّلام)؟! مجرد تساؤلات ننتظر جوابها من المعنيين..

وفيما يلي ننقل سؤالاً وجِّه إلى مركز الأبحاث العقائدية التابع لمكتب المرجع الديني الأعلى السَّيد علي الحسيني السيستاني(دام ظله الوارف) مع جواب المركز للتأكيد على ما ذكرناه:

س/هل صحيح ما يقال أن الإمام علي (عليه السلام) قال: (أن أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق) أو أنَّ أحد الأئمة (عليهم السلام) قد قال ذلك؟ وإن كان الجواب كلَّا فمن أين أتى مصدر هذا الكلام؟

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لم نر حديثاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا النَّص، بل نُقل في المصادر أنها صادرة عن أعداء أهل البيت الذين يكيلون التُّهم والسَّب لأهل العراق لأن فيهم جذوة الثَّورة ورفض الظلم ولم يتقبلوا الحكَّام المتسلطين وأنكروا الإسلام المزيَّف الذي حاولوا الترويج له, و من أولئك الأعداء:

1ـ معاوية : فانه قال للوليد بن جابر الطائي: (وإنك لتهددني يا أخا طي بأوباش العراق, أهل النِّفاق ومعدن الشِّقاق..) .

2ـ الحجَّاج: فانه قال في إحدى خطبه: (يا أهل العراق, يا أهل الشِّقاق والنِّفاق ومساوئ الأخلاق, أما والله لألحونكم لحو العصا, ولأعصبنكم عصب السلم ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ...). وفي خطبة أخرى: (يا أهل العراق يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، إن الشَّيطان استبطنكم..) .

3 ـ الجلَّاد عثمان بن حيان والي المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك: قال في خطبة له عند ما وصل المدينة: (أيُّها النَّاس إنَّا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدَّهر وحديثه وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالاً أهل العراق, أهل الشِّقاق والنِّفاق, هم والله عشُّ النِّفاق..)

ولو افترضنا صدور مثل هذا الكلام من أحد المعصومين فانه لا يشمل الموالين لأهل البيت (عليهم السلام), بل هو خاص بأعدائهم من أهل العراق, فإنَّ العراق في ذلك الوقت بعد لم يكن كلُّ أهله من الموالين لأهل البيت(عليهم السلام), بل فيه الكثير من المعاندين, وعلى هذا الأساس يُفسَّر ما ورد في الزيارة: (فقد تآزر عليه من غرّته الدنيا ... وأطاع من عبادك أهل الشِّقاق والنِّفاق) أنَّهم أعداء أهل البيت، أمثال أمثال عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمرا المتسلطين من قبل السلطة الأموية.

والخلاصة : إنَّ منهج أهل البيت (عليهم السلام) واضح, وهو منهج القرآن الكريم الذي لا يرى للقوميات والأعراق والبلدان أثراً في إيمان أو نفاق الشَّخص, فقد رفع الإسلام سلمان فارس * وقد وضع الشِّرك الشَّريف أبا لهب, وعلى هذا لا يمكن أن يصدر من أهل البيت (عليهم السلام) مثل هكذا قول, فينسب أمةً بكاملها إلى الشِّقاق والنِّفاق، بل قد حدّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المقياس في ذلك بقوله في خطبة الغدير: (ألا إن أعداء عليٍ هم أهل الشِّقاق والنِّفاق, والحادون وهم العادون، وأخوان الشَّياطين ...) .

نعم نسب هذا القول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) الطوسي(رحمه الله) في (تفسيره التِّبيان) ولكن أورده مرسلاً دون ذكر طريق له أو من أين أخذه ، مع أن المصادر عليه كـ(البيان والتَّبيين) للجاحظ و(تاريخ الطَّبري) واللاحقة له كـ(شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد و(البداية والنهاية) لابن كثير أوردت نفس الكلام عن الحجاج مخاطباً به أهل العراق (وهو الذي مرَّ سابقاً)، فلاحظ وتأمَّل .

 
  12 / ذو القعدة / 1445  |  2024 / 05 / 20        الزيارات : 4540496        صلاة الصبح |        صلاة الظهر والعصر |        صلاة المغرب والعشاء |